في إحدى ليالي العراق المظلمة تم اقتياده من قبل مجموعة الجنود الأمريكيين إلى السجن المخيف والكائن بشمال العراق والذي اشتهر بين أعضاء تنظيم القاعدة والمعارضة العراقية بسوء سمعته وقوة بطش الجنود القائمين عليه.
كان أبو أحمد والذي أجرت معه صحيفة الجارديان حوارًا مهمًا يصف سجن “بوكا” بأنه المكان الملائم لإنتاج مثل هذه الشخصيات التي تقود تنظيم داعش كأبي بكر البغدادي والذي كان يلقب بهذا اللقب حتى عندما كان مغمورًا لا يعرفه إلا أصدقاءه في تنظيم دولة العراق الإسلامية.
دخل البغدادي سجن بوكا ضمن حملة اعتقالات واسعة شنتها قوات الاحتلال الأمريكية على قيادات الجهاد في العراق وتم العثور عليه في منزل أحد أصدقاءه ويدعى ناصف جاسم ناصف ولم يكن يعرف الأمريكيون أن هذا الشخص الهاديء قليل الكلام الذي يبدوا وكأنه أحد أتباع التنظيم سيكون يومًا ما أخطر قائد إرهابي في العالم.
سجن بوكا
هو أحد المعسكرات التي أعادت القوات الأمريكية استخدامه حال وجودها في العرق في محيط مدينة أم قصر وأطلق عليه في البداية منشأة كامب فريدي من قبل البريطانيين، وفي يناير عام 2003 أطلق عليه الأمريكيون كامب رونالد بوكا تخليدًا لذكرى أحد الجنود الذين لقوا حتفهم في أحداث 11 سبتمبر 2001 وكان ضمن اللواء 800 شرطة عسكرية، وتبلغ مساحته 40 كم مربع.
قرر الأمريكان استخدام سجن بوكا للتغطية على الجرائم التي مارستها ضد السجناء العراقيين في سجن أبو غريب، فقرروا أن يجعلوا منه سجنًا نموذجيًا يراعي حقوق الانسان في التعامل مع السجناء، وعلى الرغم من ذلك فقد سجلت العديد من حالات الانتهاك بحق المعتقلين والسجناء.
كان سجن بوكا في البداية مكونًا من الخيام وذلك منعًا لأعمال الشعب والحرق التي مارسها السجناء في سجن أبوغريب، وبعد ذلك تم إنشاء دور من الطوب بأسقف خشبية، وفي النهاية تم إنشاء حجرات حديدية ووجهت بانتقادات واسعة من قبل حقوق الانسان والصليب الأحمر باعتبارها مخالفة للمواثيق الدولية.
ومبالغة في طمأنة المجتمع الحقوفي قامت السلطات الأمريكية بإنشاء ملاعب وحدائق وإقامة مباريات الكرة القدم مع السماح بزيارة السجناء من قبل أقارب الدرجة الأولى فقط، الأمر الذي لم يدم طويلًا، بالتزامن مع توفير الرعاية الصحية للسجناء والمتمثلة في عيادات للأسنان والعظام والصحة النفسية والصيدليات وكذلك تقسيم السجناء للجان للاشراف على النشاطات المختلفة مثل القراءة والكتب الدينية والنشاطات الرياضية.
تم استهداف سجن بوكا من قبل المعارضة العراقية وكذلك من قوات جيش المهدي في العراق حيث لا تبعد مدينة أم قصر عن الحدود الإيرانية سوى 25 كلم مما يسهل عملية القصف، وفي عام 2008 قالت القوات الأمريكية أنه تم استهداف سجن بوكا خمس مرات من شهر سبتمبر 2007 وحتى شهر ابريل عام 2008.
قادة التنظيم داخل سجن بوكا
من أشهر السجناء العراقيين الذين أصبح لهم دور بارز في قيادة تنظيم داعش هو قائد التنظيم الأكبر أبو بكرالبغدادي والذي ألقى القبض عليه في فبرايرعام 2004 وسمح له النظام المتسامح إلى حد ما داخل السجن بوضع حجر الأساس للتنظيم الذي أعلن عنه لاحقًا وهو تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام، مما وجه أصابع الاتهام إلى القوات الأمريكية بأنها دربت معتقلين جهاديين داخل بوكا وأهلتهم لإنشاء هذا التنظيم المسلح.
يقول هشام الهاشمي المؤرخ والباحث العراقي والخبير في الشؤون الاستراتيجية والجماعات المتطرفة والمشتغل حاليًا على ملف داعش:” ويبدو أن أكثر رفقاء البغدادي داخل السجن والذين يقدر عددهم 24000 لم يكن عندهم أدنى معرفة يطبيعة هذا الشخص الذي بدا انطوائيًا ولكنه كان صاحب قدرة عالية على حل النزاعات داخل السجن وكان بحظى بثقة الإدارة”.
وكانت ألوان الأزياء هى المميزة للسجناء داخل معتقل بوكا وهذه الطريقة التي كان يستخدمها نظام هتلر النازي في معسكرات الاعتقال. أما في سجن بوكا كان اللون الأبيض كما يقول “أبو أحمد”، لإدارة السجن واللون الأصفر والبرتقالي كان لغير المميزين وهم السواد الأعظم وكان اللون الأحمر لسيئي السمعة والمتشددين والأخضر كان لأصحاب فترات السجن الطويلة.
ووفقًا لأبو أحمد “أحد رفقاء البغدادي في السجن”:” أما عن طريقة التواصل قال أبو أحمد :” كان كل الأمراء يجتمعون في السجن بشكل منتظم حيث أصبحنا على مقربة من أعضاء كل الفصائل الجهادية الأخرى وعرفنا قدراتهم وما يمكنهم القيام به وهنا برز دور البغدادي وكذلك دور أعضاء تنظيم الزرقاوي”.
وأضاف :” كان لدينا الكثير من الوقت لنتجمع ونتكلم مع صعف القبضة الأمنية في السجن وكلما أردنا التجمع والنقاش فعلنا ذلك بكل سهولة مما يؤهلني للقول بأن سجن بوكا كان مكانًا ملائمًا لإنتاجنا جميعًا”.
وبعد خروجنا كان من السهل أن نلتفي مرة أخرى ونخطط لما يمكن تنفيذه وذلك من خلال كتابة تفاصيلنا وعناوين منازلنا وأرقام الهواتف على الشريط المطاطي الأبيض للملابس الداخلية لكل سجين، وقال أبو أحمد :” كان كل سجين مهم معلوم لدي من خلال رقام هاتفه وعنوان منزله مما يسر عودتنا إلى سابق نشاطنا قبل الاعتقال”.
ويقول هشام الهاشمي:” تشير تقديرات الحكومة العراقية إلى أن 17 من 25 قائدًا في تنظيم داعش والذين يديرون الحروب في سوريا والعراق أمضوا فترات كبيرة في السجون الأمريكية في العراق بين عامي 2004 و2011″
السجناء في بوكا طوائف وجماعات
كان أول السجناء الذين اودعتهم القوات الأمريكية سجن بوكا هم ضباط الجيش العراقي “جيش صدام” وأفراد جهاز الأمن الوطني وعناصر موظفي منظومة التصنيع العسكري وموظفي منشأة تموز العسكرية بالإضافة إلى علماء وخبراء عراقيين بارزين وكذلك أعضاء حزب البعث العراقي.وهناك أيضًا بعض العناصر من جماعة المعارضة العراقية الوطنية والرفضين للإحتلال الأمريكي بالكلمة والسلاح
وكذلك ضم سجن بوكا بين جنباته أعضاء تنظيم دولة العراق الإسلامية السابقين ومجلس شورى المجاهدين وعلى رأسهم إبراهيم عواد البدري أو أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، وعدنان البيلاوي نائبه السابق، وأبو مسلم الخراساني المعروف بفاضل الحيالي، ومحمد العراقي أو محمد عبد العزيز الشمري وخالد السامرائي، ومهند السويداوي، وحسن الدليمي، وفاضل الحيالي وجمال الجبوري والشيخ مازن المجمعي، وشاكر وهيب.
وعلى مدار سنوات عمله استقبل سجن بوكا مايقرب من 42000 سجين أدينوا بالإرهاب وجميهم عراقيون سنة، وتعرض بعضهم للتعذيب حتى الوفاة وأبرز هؤلاء والد القيادي الحالي في تنظيم الدولة الاسلامية خالد السامرائي.
توزيع السجناء داخل سجن بوكا
وزع الأمريكيون المعتقلين داخل على السجن على شكل طوائف من خلال وضع المقاوم الوطني أو العروبي مع المتطرف صاحب الفكر التكفيري، ومع ارتفاع حدة التعذيب والتضييق رجحت كفة الجهادي الذي يمتاز خطابه بالتثيبت ورباطة الجأش وهو الأمر الذي جعل أفراد المقاومة العراقيون وحزب البعث يميلون إلى اعتناق الفكر الجهادي الذي يضمن لهم الانتقام من قوات الاحتلال في قالب شرعي وشكل ممنهج.
المحاكم الشرعية
أنشأ المعتقلون الجهاديون محاكماً شرعية داخل سجن بوكا بعد فترة من تواجدهم بداخله وقاموا بإعدام بعض المنشقين والمعارضين بتهمة الردة والخيانة والكفر، وشهد الوضع استسلامًا من الجنود الأمريكيين الذي اقتصرت مهامهم على رفع الجثث من ساحة الشمس بعد تنفيذ الأحكام فيهم.
مصير سجن بوكا
أغلقت القوات الأمريكية سجن بوكا وتركته فارغًا من المعتقلين عام 2011، وقامت حكومة البصرة وهدمته بغرض طرحه للاستثمار امام شركات محلية وعالمية لبناء 40 ألف وحدة سكنية منخفضة التكلفة في خطوة لإعادة الإعمار، والمضحك في الأمر أن تلك المساكن أعدت لضحايا الهجمات الإرهابية.